السبت، نوفمبر 20، 2010

موجز تاريخ مصر الاجتماعي الحلقة 4

موجز خبرة الصراع الاجتماعي في مصر المسلمة زمن الحقبة العلمانية 1809-1952م - الحلقة الرابعة

من أبشر بخير‏ في 19 نوفمبر، 2010‏، الساعة 11:27 مساءً‏‏

التحولات الاقتصادية والنخبة

إلى جانب التحولات الفكرية في مجالي التعليم والقضاء ، كانت هناك تحولات اقتصادية غيرت من تشكيل النخبة المصرية ، فقد سقطت طبقة التجار بعد احتكار محمد علي لكل التجارة الداخلية والخارجية عن طريق الشونة الحكومية ، وقُضِي على المماليك والعلماء ، ونشأت طبقة صناعية جديدة – خاصة في القاهرة – وظهرت لأول مرة طبقة الأفندية ، كما ازداد شأن النصارى عامة ؛ لأنهم كانوا يتولون أعمال المساحة والمالية منذ قرون ، وقد زادت الحاجة إلى هذه الأعمال في عهد محمد علي ؛ فقد عمل مسحاً شاملاً للأراضي – وهو النظام المسمى بنظام : التأريع سنة 1813م - ، وبهذا انتهى نظام الالتزام العثماني ، وأصبح توزيع الأراضي المصرية كالآتي :أعطى الفلاحين من 5:3 أفدنة ينتفعون بها طول حياتهم ولا يتملكونها.خصص 5 % من مساحة كل قرية ، سميت " مسموح المصاطب " ، وكانت تعطى لمشايخ القرى للإنفاق على استضافة موظفي الحكومة.أرضى محمد علي الملتزمين السابقين بإعطائهم أراضي سميت " الأوسية (الوسيّة) ".وزّع مساحات شاسعة على أفراد أسرته ، وعلى المنافقين ، وعلى البدو ، وهي التي سميت بـ " الأبعاديات " ، وأراضي " الجفالك " (تنطق : التشفالك).وأصحاب الأراضي من النوعين 4،3 أصبحوا نواة لما سمي بعد ذلك بنظام الإقطاع في مصر (ﭘاشوات ما قبل سنة 1952م) ، والذين يحكي قصتهم عاصم الدسوقي ، ومع أن نظام الإقطاع بمعناه الأوربي لم يعرف في مصر ، إلا أن الكلمة أطلقت على النظام الذي كان يفترض أن يسمى : "الرأسمالية الزراعية " ، كما أطلقت كلمة الإقطاعيين على من يفترض أن يسموا : " كبار ملاك الأراضي الزراعية ".وهكذا شهد عصر محمد علي ثنائية المؤسسات (دينية ↔ مدنية) ، وإعادة التشكيل الاقتصادي وتغيير النخبة ، كما شهد عصر سعيد وإسماعيل تعميق هذه الثنائية ، وتعميق التركيبة الاجتماعية الجديدة ، ولكن الأهم من ذلك أنه شهد نشأة الوطنية المصرية ، فبعد إلغاء نظام التعليم المدني الحكومي حل محله نظام أسوأ منه في عهد سعيد ، فقد تسابقت جمعيات التنصير إلى إنشاء مدارس خاصة مستغلة صداقة سعيد لكثير من الشخصيات الأوربية أثناء دراسته بفرنسا ، وقد تركز نشاط الإرساليات الكاثوليكية في القاهرة والإسكندرية وطهطا والأقصر ، بينما تركز البروتستانت في القاهرة والإسكندرية وأسيوط وقليوب ، وتولى كِبره الإرساليات الأمريكية ، ويحكي رايت في تأريخه للعلاقات المصرية الأمريكية في هذه الفترة كيف أن سعيد ﭘاشا " أظهر عطفه أيضاً على الإرسالية الأمريكية حين أهدى لها في نوﭬمبر سنة 1861م مبنى في القاهرة قيمته 25000 دولار لتستخدمه كمدرسة ، ... ، وأن إسماعيل استقبل مجموعة من المبشرين الأمريكيين ، ووعدهم بالحماية والمساعدة !!! " ، وأنه " قد بدأ عمل الإرسالية الأمريكية التعليمي في نفس الوقت الذي بدأ فيه عملها في التبشير بالبروتستانتية ، فأينما ذهب المبشرون كانوا يفتتحون المدارس " ، ويقول " إن المبشرين كانوا هم الذين يكتبون غالبية ما يكتب من موضوعات ، وقد تبنى بعضهم وجهة نظر حساسة وحرجة فيما اقتبسه من المراجع الخارجية المتيسرة " وكانت فلسفتهم العامة في ذلك هي " أن الإصلاح الديني الواسع الانتشار سيكون مستحيلا ما لم يتم رفع مستوى التعليم في مصر بأكملها ، ... ، وشعر المبشرون أنهم يستطيعون الوصول إلى قلوب المسلمين من خلال تعليمهم " ، ويظهر الجدول التالي مثالاً لتطور أعمال الإرسالية الأمريكية في عشر سنوات فقط :

السنة / المؤشر مبشرون أمريكيون عمال تحويل كنائس منظمة أعضاء في الكنائس متوسط حضور دروس الأحد مخازن كتب كتب مباعة 1869 19 27 2 180 438 4 6446 1874 21 67 6 596 986 5 10176 1879 22 131 11 985 2083 5 20494 Sources: 11th, 16th&21st Annual Reports of United Presbyterian Church (1870-1875) and (1880), pp.65, 62-63, and 81, 82 resp.

ومع أن العمل التبشيري البروتستانتي الأمريكي واجه منافسات خطيرة من جماعات تبشيرية أخرى بعد الاحتلال البريطاني ، إلا أنه استمر بطاقة متجددة ، وواصل تقدمه كما يتضح من الجدول الآتي :

السنة / المؤشر عدد المحطات عدد المبشرين الأمريكيين أعضاء الكنيسة لجنة الإبراشية حضور دروس الأحد عدد الكتب الموزعة 1883 55 27 1516 19 2863 30000 1890 151 30 3155 29 6132 ........ 1895 190 42 5004 37 8886 ........ 1900 213 51 6526 50 13029 ........ 1905 191 95 8639 59 17205 ........ 1910 273 115 11200 72 21986 ........ 1914 291 122 12412 85 23614 86000 Sources: 25th, 32nd, 37th, 42nd, 47th, 52nd, and 56th Ann. Rep. U.P.CH. (1881–1891–1896–1901–1906–1911and1915) pp. 68–89–47–77–81–84–153–54, 252–56, 145–56, 145–50 and 145–50 resp.

حتى أن الحركة أرسلت للكنيسة الأبوية في الولايات المتحدة في طلب 290 مبشراً جديداً ، لكن مالية الكنيسة لم تكن تسمح باستيعاب ذلك ، فقامت الحركة بتحقيق الاكتفاء الذاتي .وقد زادت نسبة حضور المسلمين في المدارس الأجنبية – بما فيها مدارس الإرسالية الأمريكية – إلى أكثر من 111% خلال الفترة من 1875 – 1878م ، وبدراسة إحصائيات سنة 1881م كان للإرسالية الأمريكية معهد لاهوتي في أسيوط ، وكلية تعليمية ، و39 مدرسة للأولاد ، و9 مدارس للبنات ، وبلغ إجمالي عدد الطلبة والطالبات 2410 ، منهم 896 في مدارس الإرسالية مباشرة ، والباقي في مدارس تحت إشراف الإرسالية ، وبلغ عدد المسلمين المدونين في كلية أسيوط الأمريكية ومعهد بريسلي التذكاري للنساء 566 طالباً وطالبة ، بما يمثل 18 % من جملة 3070 طالباً كان لهذه المدارس عدة آثار :أنها أخرجت أجيالاً في أحرج الفترات التي كان يتم فيها تمصير الإدارة في عهد سعيد ، وكتب Richard Beardsley القنصل العام الأمريكي سنة 1873م تقريراً ذكر فيه أن ثلاثة أرباع موظفي الحكومة في التلغراف والسكك الحديدية ومكاتب البريد تلقوا تعليمهم في مدارس الإرسالية ، كما عملوا في مصالح الحكومة والبنوك ، ومع سنة 1870م كان قد تم تمصير كل الإدارات والوظائف عدا الجيش ، وكل هذ الأجيال لم تكن قد تلقت أي تعليم ديني.فشل المبشرون وسط المسلمين فشلا ذريعا ، فمثلا سنة 1904م أي بعد 50 عاما تقريبا من تواجد الإرسالية الأمريكية في مصر تم تعميد 100 مسلم فقط ، وفي سنة 1911م عقد أول مؤتمر للمتحولين إلى المسيحية من دول شمال أفريقيا في مكان قريب من القاهرة ، ولم يزد عددهم إذ ذاك عن 35 رجلا من بلاد الشرق الأوسط ، وكان المبشرون يعرفون جيدا رفض المسلمين لهم وكراهتهم الكامنة ، والتي كانت تظهر إلى السطح في أوقات الاضطرابات ، كما حدث خلال الحرب التركية الإيطالية خلال عام 1911 – 1912م دفع الفشل التبشيري وسط المسلمين إلى التركيز على التعليم ثم العمل الطبي باعتبارهما مدخل التقارب المفيد إلى قلوب المسلمين أكثر من المحاولات الفاشلة لتحويلهم إلى المسيحية كما يقول رايت .بعد الفشل مع المسلمين ركزت هذه المدارس جهودها على الأقباط ، مما أدى إلى استفزاز الكنيسة القبطية إلى درجة الصدام المكشوف سنة 1885م ، وقام البطريرك كيرلس الخامس بنفسه برحلة إلى الصعيد سنة 1867م ليتصدى " لهرطقة المبتدعين " ، وتم ضرب عدد من المتحولين ووكلاء المبشرين ، وإرغامهم على مغادرة المدن ، لكن الأهم هو أن الكنيسة القبطية أنشأت مطبعتها الخاصة ومدارسها ، بعد أن تحول 15 % من الأقباط عن الأرثوذكسية ، وأدى ذلك إلى زيادة نسبة المتعلمين وسط الأقباط عنها وسط المسلمين ، وأصبح الأقباط مع مطلع القرن العشرين يستحوذون على ربع الوظائف الحكومية ، ومعظم وظائف السكك الحديدية ، وبسبب هذا التحدي قام إسماعيل بإعادة إحياء مشروع التعليم المدني الذي بدأه محمد علي ، والذي لم يكن مجرد مشروع تعليمي ، بل كان جزءاً من سياسة إسماعيل التي لخصها في كلمات عبارته الشهيرة : " سأجعل مصر قطعة من أوربا " ، لذلك أنشأ دار الأوبرا ، وكثيرا من المتنزهات ، وأنشأ الأحياء الحديثة بالقاهرة حول ميدان العتبة وجاردن سيتي ، وسكنت الطبقات المترفة هذه الأحياء ، وبدأت تحاكي الأجانب في اللباس والعادات ، وعن طريقها تسللت هذه العادات إلى باقي أفراد الشعب ، وانتقل المركز التجاري للقاهرة من الأحياء التقليدية في الأزهر والغورية إلى الأحياء الحديثة حيث شارع عماد الدين ، وقصر العيني ، حيث كانت تباع الملابس المستوردة.ومن أهم التطورات أيضاً في عهد خلفاء محمد علي (سعيد وإسماعيل خاصة) ما حدث في المجال الاقتصادي ، إذ كان سعيد قد بدأ سياسة الاستدانة من الخارج ، وتوسع إسماعيل في القروض ، والتي بلغت مائة مليون جنيه عند عزله سنة 1879م ، وقد أدى ذلك إلى التدخل الأجنبي في السياسة المصرية لضمان حقوق الدائنين (سيأتي تفصيل ذلك) ، واضطر إسماعيل إلى رهن السكك الحديدية المصرية وإيراد أراضي الدائرة السَنيّة (ممتلكاته الخاصة)، ورهن أراضي مديريات بأكملها ، وفي سنة 1870م صدر " قانون المقابلة " ، والذي يسمح بتملك الأرض لمن يدفع خراجها مقدماً لعدة سنوات ، وكان تملك الأرض قد سمح به لأول مرة في تاريخ مصر منذ عهد الفراعنة بصدور " اللائحة السعيدية " 1858/8/5م ، وأدت هذه الإجراءات إلى ازدهار طبقة كبار ملاك الأراضي ، والذين أصبحوا يشكلون أعضاء البرلمان والوزراء.والأهم من كل ذلك هو تبلور الشخصية الوطنية المصرية على حساب الشخصية الإسلامية ، وكان أول من تكلم في ذلك : الطهطاوي ، والذي يبالغ العلمانيون في النفخ في تنويريته ، مع أنه كان مسخاً فكرياً ، تلبّس بجسد مقيم شعائر أزهري في العشرين من عمره ، يخلط في كتاباته بين الغثاء الذي تشرّبه من قشور الحضارة الغربية ، وبين ما ورثه من ثقافته الأزهرية ، فنجده في آن واحد يبشّر – حسب هالة مصطفى – بالديمقراطية الليبرالية ومفاهيمها كالفصل بين السلطات " الذي لم يعرفه إلا الفكر الحديث ، ولم يكن مطروحاً في ظل نظام الخلافة الإسلامية!!! " كما تدعي هالة ، وفي ذات الوقت يقول : "إن ولي الأمر هو رئيس أمته ، وصاحب النفوذ الأول في دولته ، إنه خليفة الله في أرضه ، وإن حسابه على ربه ، ليس عليه في فعله مسئولية لأحد من رعاياه " ، لكن التضليل العلماني يفسر ذلك بأنه " أسلوب دفاعي هدفه استخدام أسانيد سلفية في الترويج لأفكار حديثة ".

وبغض النظر عن غثاء الطهطاوي ، وتفريقه في كتابه بين " أخوة الدين " و " أخوة الوطن "نقلاً عن فكر الثورة الفرنسية ، فقد ظل هذا الفكر حبيس الكتب ، وإنما نشأت الوطنية نشأة عملية حسب التحولات التي شهدها المجتمع ، وأهمها :سلسلة الإجراءات والقوانين التي اتخذها سعيد (54-1857م) ، والتي كانت تطبيقاً لما صدر من فرمانات في الدولة العثمانية ، وأهمها : إعفاء النصارى من الجزية ، والسماح لهم بدخول الجيش ، وبذلك زال الفرق القانوني بينهم وبين المسلمين ، وكانت الدولة العثمانية قد فعلت ذلك متوهمة أنه سيكف دول أوربا عن استغلال النصارى بعد أن أصبحوا مواطنين. عانى المصريون – وخاصة الفلاحين – كثيراً من محمد علي وخلفائه ، مما ولّد شعوراً مشتركا لدى المسلمين والنصارى بكراهية النظام ، أو كما ينقل رايت " جميع شعوب الشرق الأدنى – بصرف النظر عن الوطن أو الدين – كانوا ضحايا مشتركين لمصائب مشتركة " لذا توحّد هدفهم ، وهو ما سيتضح في ثورة سنة 1881مانتشار الصحافة في عهد سعيد ، ونقلها بلا هوادة عن الفكر الأوربي ، ودعايتها للوطنية.إنشاء مؤسسات تثقيفية خطيرة ، مثل : المسرح ، والذي أنشأه اليهودي يعقوب صنّوع (أبو نضّارة) في ميدان الأزبكية سنة 1870م ، ثم جاء إلى مصر نصارى لبنان الهاربون من مطاردة الدولة العثمانية لهم (بعد جرائمهم في جبل لبنان) ، واستكملوا مسيرة صنوع ، وعرضوا مسرحيات تدعو للوطنية ، ومن هؤلاء : أديب إسحق ، وسليم نقاش (صاحب كتاب : مصر للمصريين) ، والذي دعا إلى التخلص من الحكم العثماني ، ويرأس الفرقة يوسف خياط ، وكانوا يمثلون مسرحياتهم على مسرح زيزينيا بالإسكندرية ، كما دعاهم إسماعيل للتمثيل في الأوبرا ، وكانت الوطنية في دعوة النصارى تدعو إلى الولاء للأرض لا للدين ، كما يظهر من دعاوى جمعية بيروت السرية التي أسست سنة 1875م على يد خمسة شبان من النصارى خريجي الكلية البروتستانتية السورية ببيروت ، ومن دعاوى نجيب عازوري المسيحي الكاثوليكي السوري صاحب كتاب : " يقظة الأمة العربية " ، والذي انتهي محمد جلال كشك إلى أن الاستقلال الذي كان يدعوا إليه هو استقلال عن الدولة العثمانية فقط ، ووضع الدول العربية العلمانية البديلة تحت الحماية الأوربية ، أما عند الطهطاوي والبارودي فكانت وطنية عاطفية لا ملامح لها ، ومع ذلك فسيأتي لاحقاً التقييم الحقيقي لواقع هذه الأفكار.ومع أواخر عهد إسماعيل تجمعت في الأفق نذر الثورة ، والتي انفجرت سنة 1881م ، وكانت أول ثورة شعبية بهذا الحجم منذ قرون ، وإن كانت قد أحبطت لأسباب شتى ، إلا أنها أعطت أولى الدروس المستفادة في الثورة ، وكيفية إحباطها.ثورة سنة 1881م : مقدماتها وأحداثهاكان محمد علي حذراً في تعاملاته مع القوى الأوربية ، فقد رفض مشروع قناة السويس ، وقال : " لا أريد بوسفوراً آخر في مصر " ، كما رفض عرضاً لإنشاء سكك حديدية خشية ازدياد النفوذ الأوربي ، ولم ينشأ في عهده إلا خط حديدي قصير يخدم محاجر طرة ، وكان عباس انغلاقياً أمام كل ما هو غربي ، فحرر الخزانة المصرية من أثقال الديون الأجنبية ، فلم يقترض لسد عجز الموازنة ، ولم يلجأ إلى البنوك الأوربية ، وكان متديناً ، ولكنه ضيع معظم وقته وسط النساء ؛ لشكه في كل من حوله ، ولم يرتبط اسمه بشيء إلا موافقته على إنشاء أول خط حديدي في أفريقيا (والذي تم في عهد سعيد) فمنح عباس الامتياز سنة 1851م ، وبدأ العمل سنة 1852م في الخط بين الإسكندرية والقاهرة ، ولم ينجز منه في عهد عباس إلا الجزء من الإسكندرية إلى كفر الزيات ، ثم قتل في قصره ببنها يوليو سنة 1854م ، فتأخر المشروع ، ثم استكمل العمل فيه حتى القاهرة ، ومنها إلى السويس سنة 1857م ، فاتصل بذلك البحر المتوسط بالبحر الأحمر ، وكان ذلك مشروعاً انجليزياً ، وبعدها بسنوات قليلة منح سعيد صديقه دي ليسبس الامتياز الأول لحفر قناة السويس 1854/11/30م ، والذي يلاحظ أنه أضيفت إليه حاشية خاصة تشترط الحصول على موافقة الباب العالي حتى يتم بدء العمل ، ثم منحه المرسوم الثاني 1856/1/5م والذي تضمن القانون الأساسي لقيام الشركة العالمية لقنال السويس البحرية Compagnie Universelle Du Canal Maritime de Suez ، ورغم معارضة العدوين اللدودين لخطة القنال : لورد ستراتفورد دي ردكليف (سفير بريطانيا في استانبول)ولورد بالمرستون في لندن ، وذلك بسبب أصلها الفرنسي تفكيراً وتخطيطاً وتنفيذاً ، ولتهديدها المتوقع لمواصلات الإمبراطورية إلى الهند ، إلا أن دي ليسبس – وكما يقول رايت – لم يترك حجراً واحداً لم يقلبه بحثاً عن التأييد والمساندة ، واستغرق المشروع عشر سنين (أبريل سنة 1859 : الافتتاح 1869/11/17م) .

وجاء إسماعيل سنة 1863م ، وكانت له مشروعات تفوق قدرات مصر بكثير ، فأراد الاستقلال ، فدفع الملايين كرشاوى في اسطنبول (تسمى في كتب التاريخ : إكراميات) ، وتوسع إسماعيل في أفريقيا ، فأنشأ إمبراطورية مساحتها 6 ملايين كم2 ، شملت : أوغندا والصومال وإريتريا والسودان ونصف إثيوبيا الحالية ، ولكنه في محاولته غزو الحبشة هُزم هزيمة ساحقة سنة 1875م ، وكان عرابي واحداً من قادة الجيش المهزوم.وكان لإسماعيل طموحات في تحديث مصر ، فأنشأ 2000 كم من السكك الحديدية ، وبنى قصوراً لأسرته ، وتوسع كثيراً في عمران المدن ، ومع استمرار الرشاوى ونفقات العمران دخلت المالية المصرية مرحلة عدم استقرار حتى إنه في سنة 1871م أبلغ القنصل العام الأمريكي في القاهرة الإدارة الأمريكية سراً أن معدل الخصم المحلي على سندات الخزانة قد بلغ 25% ، وأنه آخذ في التزايد ، وفي سنة 1875م وبناء على طلب إسماعيل قام Stephen Cave المدير العام لخزانة صاحبة الجلالة البريطانية بإجراء فحص للمالية المصرية ، وأظهر تقريره أن الدين المصري تم بمعدلات فائدة باهظة تتراوح ما بين 12% و 27% ، ورسم صورة سوداء للرشوة والفساد والتبذير والتبديد والإنفاق غير الإنتاجي وجاء انهيار المالية المصرية في 1876/4/18م عندما أجّل الخديو سداد كمبيالات مسحوبة على الخزانة لمدة ثلاثة أشهر ، وكان قد أوقف سداد سندات أخرى قبلها بيومين ، ثم تبع ذلك الاعتراف بالإفلاس عندما أصدر إسماعيل دكريتو في 1876/5/2م بتشكيل لجنة صندوق لخدمة الدين المصري العام ، ووضع الإشراف في أيدي الأعضاء الأوربيين ، بعدها تم تعيين مراقبَين عامَّين أحدهما إنجليزي للإشراف على جمع الضرائب ، والآخر فرنسي للإشراف على الإنفاق ، وعينت الحكومة البريطانية الكابتن إيفلين بارنج (لورد كرومر فيما بعد) عضواً في لجنة الدين في مارس سنة 1877م ، والحقيقة أن أزمة الديون المصرية لم تكن إلا جزءاً من أزمة الديون في الدولة العثمانية كلها ، والتي بدأت في نفس العام أي سنة 1875م.بدأ الأوربيون في مواجهة إسماعيل على جبهتين :تصفية ممتلكاته الأفريقية ، فسقطت المديرية الاستوائية (أي أوغندا) ، وأخرجت مصر من الصومال ومحافظة سواحل البحر الأحمر (أي إريتريا) ، وبعد ذلك سهّلت الثورة المهدية مهمة الدول الأوربية في إخراج مصر من السودان .التغلغل في مصر واستغلال مشكلة الديون ، حيث أصبح المرابون الأوربيون – ومعظمهم إنجليز وفرنسيون ويونانيون – يسيطرون على مئات الآلاف من الأفدنة ضماناً للديون ، وقامت كل من بريطانيا وفرنسا بتنسيق سياستيهما معاً لإجبار إسماعيل على قبول تنازلات أكثر .

رد إسماعيل على هذا الهجوم بالتخلي عن فكرة الحكم المطلق ، وبدأ في محاولة إشراك الشعب في معالجة هذه الورطة ، فتنازل في مجال الحريات ، فأنشأ إسماعيل مجلس شورى النواب سنة 1869م ، ولكنه كان شكليا (فقراراته غير ملزمة) ، ولكن المجلس الذي أنشأه سنة 1879م ( أي بعد أزمة الديون) كانت قراراته ملزمة ، ويشبه البرلمانات الأوربية ، وقام إسماعيل بإجبار نوبار ﭘاشا على الاستقالة ، وأعاد تشكيل الحكومة بعد إبعاد الوزيرين الأجنبيين منها (وزير المالية الإنجليزي ريـﭭرز ويلسون ، ووزير الأشغال العامة الفرنسي دي بلنيير) ودعا شريف ﭘاشا لتشكيل وزارة وطنية جديدة ، وخشيت الدول الأوربية من هذه التطورات ، فتدخل المستشار الألماني بسمارك ، وأرسل احتجاجاً إلى حكومة إسماعيل ، وذلك في 1879/5/18م ، وحاولت حكومة شريف تهدئة الموقف ، ولكن في 1879/6/18م صدرت التعليمات إلى Sir F. Lascelle وكيل بريطانيا بالانضمام إلى الوكيل الفرنسي في مطالبة إسماعيل بالتنازل عن العرش لابنه توفيق ، وجاء في رسالتها لإسماعيل : " ... ويظهر أن العقبة الوحيدة في طريق الإصلاح هي شخص الخديو ، ولا ريب أن تغيير الخطة يتطلب تغيير الحاكم " ، وتتضح حقيقة مسلك انجلترا وفرنسا من شهادة القنصل العام الأمريكي Farman في رسالة لبلاده بتاريخ 1879/3/21م يقول فيها : " من المستحيل تفسير الخط الذي تتبعه انجلترا وفرنسا ناحية مصر على أساس مالي بحت ، ... ،ويبدو للمراقب المحايد أن الغرض (الإنجليزي) هو إحداث ثورة إذا كان ذلك ممكناً ، ليتوفر لها المبرر للاستيلاء على البلاد " ورد إسماعيل على ذلك بإحالة الأمر إلى السلطان ، وفي 1879/6/26م وصلته البرقية الشهيرة ، وفي مقدمتها : " إلى الخديو السابق إسماعيل ﭘاشا " ونُفي إسماعيل إلى إيطاليا وسط صراخ النسوة في القصر.

ليست هناك تعليقات: