الاثنين، يوليو 12، 2010

موجز خبرة الصراع الاجتماعي في مصر المسلمة في الحقبة العلمانية 1809 – 1952

مقدمة

أضحى المكوّن الثقافي أهم قوى تحريك الصراعات في العالم ، وصارت قضايا مثل : الحرب الثقافية ، والغزو الفكري ، وصدام الحضارات ، من أكثر القضايا حيوية على الجانبين : السياسي والأكاديمي – إن لم تكن أكثرها على الإطلاق – وبتعبير هنتنجتون : " ... وقد شهدت السنوات التي تلت الحرب الباردة بدايات تغيرات مثيرة في هويات الشعوب ، ورموز تلك الهويات ، وبدأت السياسات الكونية في إعادة التشكل على خطوط ثقافية " وينقل عن جاك ديلور قوله : " الصراعات المستقبلية سوف تشعلها عوامل ثقافية أكثر منها اقتصادية أو أيديولوجية "

وفي هذا الصدد بالذات فإن الإسلام يتبوّأ موضعاً خاصاً ، يتنبأ له هنتنجتون بقوله : " لا آدم سميث ، ولا توماس جيفرسون سَيَفي (!) بالاحتياجات النفسية والعاطفية والأخلاقية للمهاجرين الجدد إلى المدينة ، أو للجيل الأول من خريجي المدارس الثانوية ، ولا المسيح قد يفي بها – وإن كانت فرصته أكبر – على المدى الطويل : محمد سينتصر "

فإذا تداخل المكوّن الثقافي مع غيره من عوامل الصراعات في مسرح مزدحم بالمشروعات كالشرق الأوسط تعقدت الصورة لدرجة مذهلة ، وازدحمت بثنائيات متنافرة من الخيارات والبدائل التي يتبناها أصحاب المشروعات المختلفة ، ويحاولن تشكيل المستقبل بما يتفق ورؤاهم ، وهكذا تصارع داخليا (مع التحفظ على التضليل بالمصطلحات):
الدولة الدينية ↔ الدولة المدنية ، المادة : 2 ↔ المادة : 5 من الدستور المصري ، أحكام الشريعة ↔ المواطنة ، الإخوان المسلمون (وجماعات الإسلام السياسي ككل) ↔ الحزب الوطني (والأجنحة العلمانية ككل سواء منها الصريحة أو التلفيقية) ...الخ ، فإذا تداخلت مستويات التحليل : المحلي مع الإقليمي مع الدولي ، ازدادت الصورة تعقيدا ، وتعمقت ثنائيات الداخل بثنائيات إقليمية ودولية مناظرة من قبيل :
حماس ↔ فتح ، حزب الله ↔ قوى الرابع عشر من آذار ، إيران ↔ تحالف 6+2+1 ، القاعدة وطالبان والمحاكم الإسلامية ... ↔ المشروع الغربي الاستعماري كله في مسارح مختلفة كالعراق وأفغانستان والصومال ...
وهكذا – وبدلالات حضارية – يمكن اختزال هذا المشهد – على تنوع تفصيلاته – على أنه صراع حضاري محتدم ( ومن الحضاري يتفرع : الثقافي ، السياسي الدولي والإقليمي ، الاجتماعي المحلي) طرفاه هما :
المشروع الإسلامي بكل تنوعاته واجتهاداته وصور تطبيقه على مستوى الشعوب والدول والحركات ...
العلمانية بكل مشروعاتها الحضارية والسياسية والاجتماعية (الاستعماري – الصهيوني – النخب العلمانية في الداخل المسلم ...)
ولما كان الإسلام ذا عمق زماني ألفي ، واتساع مكاني قاريّ ، فقد تنوّعت فيه بالتالي الاجتهادات والتجارب ، واتخذ المشروع الإسلامي فيه نماذج مختلفة ، اختلف نصيبها في التطبيق ما بين :


1. التطبيق المثالي في صدر الإسلام ، والذي تميز بأنه كان ذا توجّه خارجي واعٍ برسالته تجاه العالم ، كما لم تنفصل فيه القيادة الفكرية عن القيادة السياسية والتي لا ينطبق عليها مفهوم النخبة ، سواء بمعنى استئثارها بمزايا نتيجة لمكانتها ، أوحتى مفهوم النخبة كمقابل للجماهير. 2. نماذج التطبيق الإمبراطورية ، والتي لم يكن مشروعها أكثر من توسعات امبراطورية لخدمة نخبة حاكمة : أسرة (الأموية) ، أو عصابة (المماليك) ، أو مؤسسة (العثمانية) ، أو خليط من كل ذلك (العباسية) ، مع الاحتفاظ باستمرار الإنجاز الحضاري كمهمة للأمة لا للدولة. 3. النموذج الذي سماه المودودي : " القومية الإسلامية " ، والذي لايختلف كثيرا عن المشروعات القومية على النمط الغربي ، ومثاله : قيام باكستان سنة 1947 م
إلا أن المقصود بتعبير " المشروع الإسلامي " في هذه الدراسة هو : المشروع الذي تتبناه " الحركة الإسلامية " ذلك التيار الاجتماعي الذي يحاول إعادة المجتمع إلى الصورة المثلى للتطبيق "
تظهر صعوبة الدراسة من أن هذا التداخل الشديد يستلزم تفكيك كل صراع على حدة ، ثم دراسة التفاعل بين هذه الصراعات بعضها البعض ، فمثلا : الحرب الباردة (صراع دولي) كان لها تأثيرها على الوضع داخل المجتمعات العربية ، فعندما يئس عبد الناصر من تحسي شروط تبعيته لأمريكا ، تقارب مع السوفييت ليضغط على أمريكا ، وكان الروس عميقي الريبة في الحكام العرب ، فقام هؤلاء من جانبهم بتبني بعض الإجراءات الاشتراكية لكسب ثقة الروس ، ففي مصر : صدر ما يسمى بقوانين يوليو الاشتراكية ، وترجموا الميثاق الوطني اليوغسلافي ترجمة حرفية ، وابتدعت بدعة 50% عمال وفلاحين ليحاول تقسيم المجتمع على أساس طبقي ، رغم أن من سموا أنفسهم بالعمال والفلاحين لم يكونوا سوى أغنياء قاموا بتغيير مهنتهم في البطاقة الشخصية ، ويستحق هذا الموضوع دراسة منفصلة تتتبع الأصول الاجتماعية لمن ادعوا أنهم عمال وفلاحون ، وبالعكس : تحول مسار الصراع العربي – الإسرائيلي (وهو صراع إقليمي) ، فشهد مستويات متزايدة من العنف بفعل متغير اجتماعي هو صعود المشروع الإسلامي اجتماعيا على حساب القومية الوطنية ، ومع الضغط الجماهيري على الحكام أصبح إمكان تنازلهم أمام الغرب واليهود في هذا الصراع محدودا ، بل إن حسني مبارك تجاوز المفاهيم الوطنية إلى المفاهيم الإسلامية عندما قال : " إن القدس ليست قضية الفلسطينيين وحدهم ، ولكنها قضية مليار مسلم ".
وستحاول هذه الدراسة تناول الصراع الاجتماعي – في مصر – كأنه منفصل عن الدولي والإقليمي ، كما ستحاول ألا تتورط كثيرا في سرد تاريخ سياسي أو عسكري أو اقتصادي إلا في الحدود الدنيا التي يتطلبها الإلمام بالتحولات الاجتماعية في الفترة محل الدراسة ، وهكذا تحدد النطاق المكاني للدراسة بمصر ، وتحدد النطاق الزماني لها بالحقبة العلمانية ، والتي تبدأ في تطبيقها العملي بعد مجيء الحملة الفرنسية بقليل ، وتمتد حتى الآن ، ولما كان حجم الدراسة ، والوقت المتاح لها لا يتسع لتغطية كل هذه الفترة ، فقد اقتصرت على الفترة حتى سنة 1952 م.








الإطار النظري
يحدث الصراع الاجتماعي بين كتل تنتمي إلى المجتمع الواحد ، والمحرك له عادة سببان رئيسيان (وإن كان يمكن التماس أسباب أخرى ، لكنها ستمثل حالات قليلة) ، هما :


وفي النوع الأول يوصف المجتمع بأنه مجتمع طبقي ، وتتكتل كل طبقة للدفاع عن مصالحها من خلال االزج بأبنائها إلى المراكز القيادية ، والسعي إلى استصدار التشريعات التي تزيد من التمكين لهذه الطبقة ، ولا يكون المجتمع مستحقاً لهذا الوصف إلا بأن يوجد فيه : " الوعي الطبقي " ، فتتحول الطبقة إلى انتماء ، وهذا
1. التنافس على المكاسب الدنيوية ، أو بمصطلحاتهم : السلطة ، والثروة في المجتمع.
2. الصراع من أجل أن تسود ثقافة بعينها المجتمع كله.هو الفارق بين المجتمعات الغربية والمجتمعات الإسلامية ، ففي الأولى ينتمي الفرد في آن واحد إلى الوطن وإلى الطبقة ، ويظهر انتماؤه الطبقي في شكل إسهامه النشط في نقابة أو جمعية ، وفي تحديده للحزب الذي يمثل مصالح طبقته ، أما في المجتمع الإسلامي ، فالانتماء هو للأمة وللجماعة (بمصطلحات علم الاجتماع) ، وإذا كانت الطبقة تعني مجموعة أفراد تجمعهم المصلحة الدنيوية ، فإن الجماعة تعني : مجموعة أفراد يجمعهم الانتماء الفكري الواحد (وليس بالضرورة الانتماء التنظيمي) ، فإذا كانت هناك " أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " فهذه الأمة هي المقصودة بالجماعة اصطلاحاً.


على مدار التاريخ الإسلامي كان هناك أغنياء وفقراء (وهذه سنة كونية عموماً) ولكن لم يكن هناك وعي طبقي يوما ً ما ، ولا قام أهل طبقة بتنظيم أنفسهم لتحقيق مكاسب ، وكانت هناك عوامل تعمل على تحطيم الطبقية ، فالكل يشترك في العبادات (الصلاة ، والحج ، ...) ، والكل له نفس العادات (بخلاف الغرب حيث للطبقة الأرستقراطية عاداتها) ، وبهذا يصبح تطبيق مفاهيم التحليل الطبقي على مجتمع مسلم نوعاً من السخف والعسف ، ولذلك لا يخفي الشيوعيون الذين حللوا التاريخ الإسلامي غيظهم إذ يقولون : إن تكون الطبقات كان يمكن أن يحدث في الحضارة الإسلامية كما حدث في الغرب ، لولا أن الدين أحبط هذا التطور.
وهذا الفارق الجوهري بين المجتمعين لا يسمح بمقارنة بينهما من اي نوع ، فبينما ينقسم المجتمع الطبقي بخطوط أفقية تفصل بين ثلاث طبقات :

1. البورجوازية الكبيرة : قمة الهرم الاجتماعي ، ولا يزيدون عن 5 % من أي مجتمع.

أما المجتمع الإسلامي فيقسم بخطوط رأسية ، يخترق كل خط منها كل مستويات الغنى والفقر السابقة ، وبقدر ما يكون هناك أكثر من تشخيص لمشكلات المجتمع الإسلامي بقدر ما تتعدد الجماعات ، كما أنه بقدر استعدادات الأفراد للإسهام في إصلاح المجتمع بقدر ما تتعدد الجماعات أيضاً ، فالعلماء مثلاً يمثلون أكثر من جماعة ، فقد كان لبعضهم أدوار إيجابية ، فيما عمل بعضهم لحساب السلطان ، والحركات التي كانت تمتلك وجهة نظر معينة تريد فرضها على المجتمع (مثل الخوارج) هي أيضا جماعات ، وداخل وجهة النظر الواحدة قد توجد جماعة تريد تطبيق الفكرة بشكل إصلاحي ، وأخرى تريدها بشكل ثوري ... الخ.
2. البورجوازية المتوسطة : أهل مدن حصلوا على حد أدنى من الثقافة ، وميسورون اقتصاديا بحيث يتبقى لهم وقت فراغ لتثقيف انفسهم وتنظيم حركتهم.
3. البروليتاريا : الكادحون من العمال والفلاحين ممن لا يمتلك أدوات إنتاج ... الخ

فإذا انحرف المجتمع الإسلامي أصبح عرضة لمزيد من الانقسام ، وكلما زاد انحرافه كلما أصبح مفتوحا ً ومتقبلا ً للأشكال الأخرى من الانقسامات ، إن الانقسام في مجتمع إسلامي بين : " الكتاب والسلطان " - حسب التعبير النبوي – هو انقسام طبيعي ؛ لأن الانحراف من طبائع البشر ، ولأن مواجهة الانحراف تكليف شرعي ، أما غير الطبيعي فهو الأشكال الأخرى من الانقسامات : الطبقية ، والقبلية (الصومال) ، والطائفية (لبنان) ، فلو فرض أن هذه الثلاثة وجدت في مجتمع إسلامي انحرف كثيراً فستتداخل أربعة أنواع من الصراع (أفقية ورأسية) ، ونصبح أمام فسيفساء اجتماعية.

فرق آخر بين هذين النوعين من المجتمعات ، هو كيفية إدارة هذا الصراع ، ففي المجتمعات العلمانية تنجح الطبقات المسيطرة – من خلال إشاعة " الوعي الزائف " (حسب مصطلحات أعدائها) – في تسييد رؤيتها للعالم ، وهكذا احتوت المجتمعات الرأسمالية حركات الاحتجاج الراديكالية ، وحوّلتها إلى " حركات ثقافية " من خلال ما سمّاه ماركيوز : " التسامح القمعي = Repressive Tolerance " ، وأدت السيطرة الإعلامية على عقول أهل الغرب ومشاعرهم إلى أن أصبح الفرد يتصرف لا شعوريا وفق ما يحدده له المهيمنون على هذه الأجهزة ، وتحول الشعب إلى قطيع من الغنم ، ولذلك لم تكن الدول في الغرب بحاجة إلى أجهزة قمع لإخضاع شعوبها ، ويظهر الاختبار الحقيقي لدعاوى الديمقراطية عند اتخاذ قرارات مصيرية من وراء ظهر الشعوب وبطرق الخداع (كقرار حرب العراق مثلاً) ، ويقال علنا في هذه المجتمعات أن فوز فلان ٍ أو فلان ٍ في الانتخابات الرئاسية إنما يرجع إلى تمويل احتكارات البترول لحملته ، أو تمويل المجمع الصناعي العسكري له ، وفي ظل توازنات اجتماعية معينة يتم وضع الدساتير والقوانين المحددة لقواعد اللعبة السياسية ، و" ليتحرر " المواطن من استبداد الحاكم الفرد ، ويذهب بكامل حريته ليختار من يحكمه ويستبد به : هل العصابة (أ) أم العصابة (ب) واللتان قبلتا بتقاسم توزيع الأدوار ، وتبادل اللعب بالناخب " الحر " ، فإذا ظهرت قوة اجتماعية جديدة تريد التعبير عن نفسها ، فإنهم يواجهونها بما سبق " رصّه " في الدساتير والقوانين ، مع أن الذين تم استفتاؤهم على هذه الدساتير قد ماتوا منذ زمن ، ولم يؤخذ رأي الأجيال الحالية في ذلك الدستور ، وقد استوعب الإسلاميون اللعبة ، وطبقوها في كل من إيران والسودان ، حيث يوضع في مرحلة التأسيس ما يشاء النظام من ضوابط ، ثم يقول للشعوب : اختاروا من تريدون ؛ لأن من سيُختارون سيعملون في الإطار الموضوع لهم سلفا ً ، والمشكلة التي تواجه الأنظمة العربية وتحول دون تطبيق هذه التمثيلية هي انها تتطلب حدا ً أدنى من الحكم الصالح Governance ، وهو مالا يتوافر لأنظمة هي في جوهرها تحالف من اللصوص والعلمانيين ، او لم تبلغ بعد حدّ أن تكون نظاما وإنما هي مجرد أسرة حاكمة تنتمي إلى العصور الوسطى ، وعند هذا المستوى من الفساد تصبح أي محاولة لمقرطة اللعبة هي بمثابة " انتحار سياسي " يهدد بانهيار مؤسسة الفساد ككل مع أول بادرة تنفيس للحريات ، لذلك لم يكن غريبا أن يستغيث مبارك عبر مكالمة هاتفية بشارون عقب نتيجة المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية 2005 ، ليشفع له عند بوش ليسمح بالتدخل الحاسم في المرحلتين التاليتين لمنع وصول الإسلاميين ، حسبما يذكر هيكل

وفي التطبيق الشيوعي الذي لم يبلغ هذا القدر من الخبث كان الحل المعتاد هو اللجوء إلى القمع المباشر ، وعن هذين النموذجين أخذت النخب العميلة في العالم الإسلامي خبرتها ، فطبقت الأول (التسامح القمعي) مع من لايصل إلى حد تهديد السلطة ، وطبقت الثاني (القمع) بحِرَفِيّة واقتدار مع الحركات الأصيلة ، ولذلك كان القمع سمة مميزة للتعامل مع الشعوب على امتداد التاريخ الإسلامي ، بسبب حيوية الشعوب المستمدة أساسا ً من بساطة المبادئ الإسلامية التي يفهمها العام والخاص ، مع كون هذه المبادئ غير قابلة للتزييف أو الالتفاف حولها.






المشكلة البحثية وفرضيات الدراسة
تحاول الدراسة التنقيب عن فترة من أهم فترات تاريخ مصر الاجتماعي ، لتحدد أطراف هذا الصراع ، وأدواره ، ووسائله ، وموقف الجماهير منه ، والكشف عن موقع الإسلام من ذلك كله ، وبهدف التحقق من عدة فرضيات أساسية هي :
أن كتابة هذا التاريخ هي نفسها إحدى ميادين الصراع الاجتماعي ، التي عربد فيها العلمانيون بوقاحة ، مستخدمين كافة أشكال التضليل من : حجب للحقائق ، أو تضخيم لبعضها ، وتهوين للبعض الآخر ، وتلاعب بالمصطلحات ، وخلط للأوراق ، وخلط بين النتائج والمقدمات ، وأخيراً الكذب الصريح و" الاستهبال " المباشر ، وستتضح أمثلة على كل من هذه الأساليب أثناء الدراسة.
أن النخب الحاكمة ، العميلة للاستعمار ، الخاضعة لمشروعه ، والقانعة منه بالفتات ، تعمل على تنفيذ أهداف المشروع الاستعماري بالوكالة دون أن يتكبد هذا الأخير تكاليفها ، وبهذه الاستراتيجية فإنها تمثل أعلى مراحل الاستعمار ، وليست الصهيونية كما كان يجادل جمال حمدان
أن تاريخ مصر عبر قرنين من الزمان ما هو إلا ثورة متصلة تنتابها موجات من المدّ والجزر ، مع توافر كافة الشروط الموضوعية لحدوث ثورة.
أن حركة الجماهير أكبر من ان تستوعبها الحركات القائمة ، وبهذا تصبح المشكلة الرئيسة هي عدم اكتمال الشرط الذاتي لتحقيق الثورة.


وتسلم الدراسة مبدئيا ان توقف النطاق الزمني لها عند حدود سنة 1952 م لأسباب خارجة عن إرادة الطالب ، يمنع ويحول دون تأكيد هذه الفرضيات بشكل أكثر يقينية عمّا سيتضح بالبحث ، وإن كان النسج على منوالها في التناول كفيل بتحقيق هذا الهدف.
منهج الدراسة
في الدراسة التأصيلية التي قدمتها نادية مصطفى شككت في جدوى المنهج الاستقرائي الإمبيريقي ، القائم على تحديد المفاهيم وضبط المؤشرات ثم تفسير نتائج الرصد ، والحق أن مشكلة المنهج تتجاوز بكثير الموضوع محل الدراسة هنا ، فلقد انتقدت الإمبيريقية كثيراً ، وأصبح عوارها واضحاً ، لدرجة استدعت نشوء حركة " بيروسترويكا علم السياسة " في الولايات المتحدة ، مصدر هذا المنهج ، ومع ذلك فإن الذين يدرّسون عيوبها ، هم أنفسهم الذين ما زالوا يطبقونها ، وربما كان السبب في ذلك أن سقوط الإمبيريقية – الذي هو مجرد عرَض جانبي لسقوط الفلسفة الوضعية كلها – أدى إلى فراغ في المنهج ، فعندما حلت الفلسفة الإنسانية – في الغرب – محل الوضعية اقترحت مناهج يصعب على من تربوا على الإمبيريقية أن يتصوروها فضلا عن أن يطبقوها ، والحقيقة أن النقد الجاد الوحيد الذي وُجِّه إلى كل تلك المناهج أنها تتطلب فترة طويلة من اكتساب الخبرة في الموضوع محل الدراسة قبل أن يكون الباحث قادرا على إصدار حكم Judgement ، وهناك نقد آخر (وإن كان يمكن الرد عليه) رأى أن الفلسفة الإنسانية قد تركت الباب مفتوحا للوصول إلى استنتاجات متعارضة في المشكلة البحثية نفسها ، وأبسط رد على ذلك هو أنه في ظل الإمبيريقية نفسها يمكن الوصول إلى نتائج متعارضة ، بل إن مجرد انتقاء الملاحظات هو في حد ذاته عملية خاضعة لقيم الباحث.

ورغم العوائق السابقة التي تعترض تطبيق منهج ذي مكون قيمي ، فإن عائقاً آخر قد يكون أكثر تعويقاً أمام استخدام منهج كهذا ، ففي الحالة المصرية بالذات كوّن كثير من الباحثين قيمهم من خلال تلفيقات بين بضعة عناصر مما يلي : الإسلام – الليبرالية – الاشتراكية – الوطنية – القومية ، وتم ذلك دون الالتزام مسبقا بأطر معرفية أصيلة من النوع الذي تقدمه الفلسفة ، والذي يخرج عن مهمة الباحث في السياسة ، والحقيقة أن تقصير المفكرين المسلمين في ملء هذا الفراغ هو الذي ترك الباحثين فريسة للمناهج والمقولات الاستشراقية ، بل وبلغ من نقلهم بلا هوادة عن كل ما هو أجنبي أن تبنوا مصطلحات نُحِتت في سياق غربي ، ولكي يخاطَب بها الغربيون (مثل مصطلحات : الأصولية الإسلامية ، والحكم الديني).

لا تدّعي هذه الدراسة أنها موضوعية ، فهذ خرافة على أية حال ، ولكنها تنطلق من مسلمات قيمية سبق عرض أساسها في الإطار النظري ، تقدم نموذجا للتفسير والتنبؤ ، وهكذا فإنه وباتباع منهج تاريخي ، يفسر السلوك المدروس ، ويتنبأ بسلوكيات لم تقع بعد ، ثم يقارن بين السلوك المتنبّأ به والسلوك الذي كشفت عنه الخبرة ، فإذا ما تواتر التطابق بين التنبؤ وما تحقق في الواقع فإنه يمكن القول بصحة الفرضيات ، حتى يأتي يوم يثبت فيه العكس.


جمع البيانات
اعتمدت هذه الدراسة على بيانات كلها ثانوية ، لأن الدراسات التاريخية الكثيرة قد سبقت إلى توثيق المادة الأولية ، ولم يبق إلا إعادة ترتيبها ، كما أن الطالب – وهذا هو الأهم – لم يكن في موقف يسمج له بالوصول إلى كافة المصادر الأولية للبيانات لظروف اعتقاله ، وعلى أية حال فقد اجتهد قدر وسعه في توثيق المادة ، والإحالة إلى مراجعها ، ولو إجمالا ، خاصة وأن هذ المراجع والمظانّ تواترت شهرتها عند المتخصصين.




هوامش المقدمة
صمويل هنتنجتون ، ترجمة : صلاح قنصوه (1998) ، " صدام الحضارات ، إعادة صنع النظام العالمي ،" دار سطور ، القاهرة ، ص 35.
السابق : ص 47.
السابق : ص 108.
توفيق الطيب ( ) ، " الخصائص الثابتة للحركة الإسلامية ، " المسلم المعاصر ، العدد الأول.
محمد حسنين هيكل ، حوار مع جريدة ، " الدستور ،" عقب الانتخابات البرلمانية ،ع (53) ، 22/03/2006 م ، ص 3 من ثلاث صفحات 2،3،4
جمال حمدان (1983) ،"استراتيجية الاستعمار والتحرير،" دار الشروق ، القاهرة.
نادية محمود مصطفى (2002) ،" لماذا الإسلام والسياسة الخارجية المصرية وليست السياسة الخارجية المصرية في الدائرة الإسلامية؟ دراسة في نمط العلاقة وتفسيرها وتقويمها ،" في : مصطفى علوي (محرر) ،"المدرسة المصرية في السياسة الخارجية،" ج 2 ، مركز البحوث والدراسات السياسية ، جامعة القاهرة ، ص 832.
عبد الفتاح ماضي (2003) ،"بروسترويكا علم السياسة في الولايات المتحدة ،" السياسة الدولية ، 38 (153) ، ص ص 60-62.


(يتبع في حلقات بإذن الله)

السبت، يوليو 10، 2010

طرق الشيطان الستة لإضلال البشر


كل شر في العالم فالشيطان هو السبب فيه ولكن ينحصر شره في ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر

الشر الأول

شر الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تعبه معه وهو أول ما يريد من العبد فلا يزال به حتى يناله منه فإذا نال ذلك صيره من جنده وعسكره وإستنابه على أمثاله وأشكاله فصار من دعاة إبليس ونوابه
فإذا يئس منه من ذلك وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى

المرتبة الثانية

من الشر وهي البدعة وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها في نفس الدين وهو ضرر متعد وهي ذنب لا يتاب منه وهي مخالفة لدعوة الرسل ودعا إلى خلاف ما جاءوا به وهي باب الكفر والشرك فإذا نال منه البدعة وجعله من أهلها بقي أيضا نائبه وداعيا من دعائه فإن أعجزه من هذه المرتبة وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة ومعاداة أهل البدع والضلال نقله إلى

المرتبة الثالثة

من الشر وهي الكبائر على اختلاف أنواعها فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها ولا سيما إن كان عالما متبوعا فهو حريص على ذلك لينفر الناس عنه ثم يشيع من ذنوبه ومعاصيه في الناس ويستنيب منهم من يشيعها ويذيعها تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى وهو نائب إبليس ولا يشعر فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها لا نصيحة منهم ولكن طاعة لإبليس ونيابة عنه كل ذلك لينفر الناس عنه وعن الإنتفاع به وذنوب هذا ولو بلغت عنان السماء أهون عند الله من ذنوب هؤلاء فإنها ظلم منه لنفسه إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته وبدل سيئاته حسنات وأما ذنوب أولئك فظلم للمؤمنين وتتبع لعورتهم وقصد لفضيحتهم والله سبحانه بالمرصاد لا تخفى عليه كمائن الصدور ودسائس النفوس فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى

المرتبة الرابعة

وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها كما قال النبي إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض // صحيح // وذكر حديثا معناه أن كل واحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا واشتووا ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى

المرتبة الخامسة

وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظا لوقته شحيحا به يعلم مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب نقله إلى

المرتبة السادسة

وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فيأمره بفعل الخير المفضول ويحضه عليه ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه وقل من يتنبه لهذا من الناس فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة فإنه لا يكاد يقول إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير ويرى أن هذا خير فيقول هذا الداعي من الله وهو معذور ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل

وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول ونوابه في الأمة وخلفائه في الأرض وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك فلا يخطر بقلوبهم والله تعالى يمن بفضله على من يشاء من عباده
فإن أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيا عليه سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه وقصد إخماله وإطفائه ليشوش عليه قلبه ويشغل بحربه فكره وليمنع الناس من الإنتفاع به فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه ولا يفتر ولا يني فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت ومتى وضعها أسر أو أصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله
(ابن القيم - بدائع الفوائد )